الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:
فإن الذكر من أفضل أعمال العبد، وقد جاءت السنة بأذكار مخصوصة في أوقات مخصوصة، ومن هذه الأذكار ما يقال بعد الانتهاء من الصلوات المفروضة.
وقد تعددت الرواياتُ في العدد الذي يقال بعد الصلاة.
وسأكتفي هنا بالروايات المروية عن أبي هريرة- رضي الله عنه- إذ كانت هي المحل الرئيس لاختلاف العلماء في هذا المقدار.
فأقول مستعينة بالله: روى البخاري عن ورقاء عن سُمَي عن أبي صالح عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قالوا: يا رسول الله، قد ذهب أهلُ الدُّثُور بالدرجات والنعيم المقيم، قال: «كيف ذاك؟» قال: صلَّوْا كما صلينا، وجاهدوا كما جاهدنا، وأنفقوا من فُضول أموالهم، وليست لنا أموالٌ، قال: «أفلا أخبركم بأمرٍ تُدْرِكُونَ من كان قبلكم وتسبقونَ من جاء بعدكم، ولا يأتي أحدٌ بمثل ما جئتم به إلا مَن جاء بمثله: تسبحونَ في دُبُرِ كل صلاة عشرًا، وتحمدون عشرًا، وتكبرون عشرًا»[1].
وعارض هذا الحديثَ ما أخرجه البخاري عن عبيد الله عن سُمَي عن أبي صالح عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: جاء الفقراءُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ذهب أهل الدُّثور من الأموال بالدرجات العلى والنعيم المقيم؛ يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضل من أموال يحجون بها ويعتمرون ويجاهدون ويتصدقون؟ قال: «ألا أحدثكم بأمر إن أخذتم به أدركتم مَن سبقكم، ولم يُدرككم أحدٌ بعدكم، وكنتم خير مَن أنتم بين ظهرانيه إلا من عمل مثله: تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة ثلاثًا وثلاثين»[2].
وقد اختلف العلماء في الجمع بين الحديثين: فذهب الكرماني- رحمه الله- إلى أن الرواية التي ذكر فيها عدد الخصال (ثلاثًا وثلاثين) قيدت فيها الدرجات بـ (العلى)، وزيد فيها في الأعمال من الصوم والحج والعمرة، فزيد في العدد. وقال أيضًا: إن مفهوم المخالفة للعدد غير معتبر، فرواية (ثلاثًا وثلاثين) لا تنافي رواية عشرًا [3].
لكن الحافظ ابن حجر لم يرتضِ توجيهَ الكرماني ووصفه بالغرابة، وعلّل ذلك بأن هذا الجمع إنما يصح لو اختلفت مخارج الحديث، ولكنهما متحدا المخرج، فهما من رواية سُمَي عن أبي صالح عن أبي هريرة، وهذا يعني: أن زيادةَ بعض الألفاظ تصرُّف من بعض الرواة، وليس اختلافًا لحال الرواية. وكذا يقال في مفهوم العدد؛ إذ إنه إنما يصح الجمع به لو اختلفت مخارج الحديث، فأما إذا اتحدت فلا مناص من اعتبار أن الاختلاف عائد إلى تصرف بعض الرواة [4].
واختار ابن حجر ترجيح رواية على أخرى؛ لأنه إذا تعذر الجمع وجب الترجيح، وراوي الزيادة معه زيادةُ علم فيقدم على غيره، فتكون الرواية القائلة بـ (ثلاث وثلاثين) لكل خصلة أرجح [5]. وإليه ذهب النووي قائلًا: (وأما قول سهيل: إحدى عشرة، فلا ينافي رواية الأكثرين: ثلاثًا وثلاثين، بل معهم زيادة يجب قبولها) [6].
ويؤيد هذا الترجيحَ ما رواه أبو هريرة- رضي الله عنه- قال: قال أبو ذر: يا رسول الله، ذهب أهل الدثور... الحديث، وفيه قال: «تكبر الله دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين، وتسبحه ثلاثًا وثلاثين...» [7].
وعليه يحمل ما أخرجه مسلم وابن خزيمة وابن حبان والنسائي الحديث عن أبي هريرة بلفظ: (تسبحون، وتكبرون، وتحمدون، دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين) [8].
ولعل سبب اختلاف الرواة في تحديد عدد الخصال المذكورة في الحديث- كما أشار ابن حجر- أن رواية ابن عجلان عند مسلم أوهمت ذلك، فقوله: (تسبحون وتحمدون وتكبرون ثلاثًا وثلاثين) فهم منه بعضُ الرواة أن العدد مقسوم على الأذكار الثلاثة، فروى الحديث بلفظ إحدى عشرة، وهذه رواية سهيل السابقة، وبعضهم ألغى الكسر، فقال: عشرًا [9].
وربما يفهم هذا الوهم من بعض الروايات؛ فقد أخرج مسلم زيادة له عن ابن عجلان قال: قال سمي: فحدثتُ بعض أهلي هذا الحديث، فقال: وهمت، إنما قال: تسبح الله ثلاثًا وثلاثين، وتحمد الله ثلاثا وثلاثين، وتكبر الله ثلاثًا وثلاثين، فرجعت إلى أبي صالح فقلت له ذلك، فأخذ بيدي فقال: (الله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، الله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، حتى تبلغ من جميعهن ثلاثة وثلاثين) [10].
وفي رواية أخرى لمسلم عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة- رضي الله عنه- الحديث، وزاد في آخره: (يقول سهيل: إحدى عشرة، إحدى عشرة، فجميع ذلك كله ثلاثة وثلاثون) [11].
والخلاصة: أن الخلاف في تحديد العدد راجع إلى تصرف الرواة بعد أبي هريرة. كما أن هناك توجيهات أخرى لأهل العلم في مقدار عدد الذكر بعد الصلاة، إذ يعدّونه من باب الاختلاف المباح الذي يجوز للإنسان أن يأخذ بأي عدد منه. والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] صحيح البخاري، (80) كتاب الدعوات، (18) باب الدعاء بعد الصلاة، حديث رقم (6329)، ص (1101).
[2] صحيح البخاري، (10) كتاب الأذان، (155) باب الذكر بعد الصلاة، حديث رقم (843) ص (136).
[3] ينظر: صحيح البخاري بشرح الكرماني (22/140).
[4] ينظر: ابن حجر، فتح الباري (11/161).
[5] ينظر: فتح الباري (11/161).
[6] ينظر: شرح مسلم للنووي (5/96).
[7] أخرجه أبو داود في سننه (8) كتاب الوتر (24) باب التسبيح بالحصى، حديث رقم (1504)، ص (222)، وأحمد في مسنده مسند أبي هريرة، حديث رقم (7242) ص (549)، والدارمي في سننه (2) كتاب الصلاة (90) باب التسبيح في دبر الصلوات حديث رقم (1389) ص (173).
[8] صحيح مسلم (5) كتاب المساجد (26) باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، حديث رقم (142) ص (300)، وصحيح ابن خزيمة (1/368) وصحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان، ذكر البيان أن التسبيح والتحميد والتكبير الذي وصفنا هو أن يختم آخرها بالشهادة لله بالوحدانية ليكون تمام المائة (5/35)، والسنن الكبرى للنسائي، كتاب عمل اليوم والليلة، باب التسبيح والتهليل والتحميد دبر الصلاة، حديث رقم (9974) (6/43).
[9] ينظر: فتح الباري (11/161).
[10] أخرجه مسلم في صحيحه (5) كتاب المساجد ومواضع الصلاة (26) باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، حديث رقم (142) ص (300).
[11] أخرجه مسلم في صحيحه (5) كتاب المساجد ومواضع الصلاة (26) باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، حديث رقم (142) ص (301).
الكاتب: وسمية جويعد العجمي.
المصدر: موقع الألوكة.